"اسطنبول" لأورهان باموق - الكتاب الخامس من مبادرة "كتاب من كل دولة"
عرض: ياسمين الطوخي
"وأُترك لأتساءل فى حيرة إن كانت المدينة تعاقبنى لأننى أضيف إلى قذارتها، لأننى هنا عمومًا. حين تبدأ سوداويتها تتسرب إلىّ ومنى إليها، أبدأ فى الاعتقاد أنه ليس هناك ما أقوم به؛ أنتمى ، مثل المدينة، للميت الحى، أنا جثة مازالت تتنفس، بائس حكم علىَّ بالسير فى شوارع وأرصفة لا تذكرنى إلا بقذارتى وهزينتى. يبقى الأمل يراوغنى، حتى حين أحدق بين المبانى الخراسانية الجديدة البشعة (كل منها يسحق روحى) وألمح البوسفور يومض مثل وشاح حريرى. السوداوية الأكثر قتامة والأشد فتكًا تزحف من الشوارع الأبعد من أراها، وأكاد أشم رائحتها- كما يستطيع اسطنبولى خبير أن يقول من الرائحة الخفيفة التى تنبعث من الطحالب فى أمسية خريفية أن رياح الجنوب ستأتينا بعاصفة؛ ومثل شخص يسرع إلى بيته ليحتمى به من تلك العاصفة، أو ذلك الزلزال، أو ذلك الموت، أتوق أيضًا للعودة بين جدرانى الأربعة."

ولعلك ستلحظ هذا فى الصور التى احتوتها السيرة والتى تم عرضها بانسيابية داخل متن السيرة ولم يفرد لها ملحق خاص، وهو تأكيدٌ قوى لفكرته التى سعى فى عرضها وشرحها بامتداد السيرة. هذه الصور التى ارتبطت عنده بلونين لا ثالث لهما (الأبيض والأسود) فأفرد فصلاً معنونًا بهما ،وآخر يتحدث فيه عن بعضها فى متحف الظلام (البيت) الذى اعتاد الظلامَ فيه فوصفه بالكئيب. وبالتالى، لا عجب أن راحَ يكتب عن حبه للسوداوية التى تلف اسطنبول وبناياتها القديمة وشوارعها المظلمة.
ولا شك أن السوداوية تستتبع بالضرورة حزنًا راح يفرد له فصلاً كاملاً ليؤكد أنه شعور عام وجماعى ظلل اسطنبولَ وأهلها. خاصةً وأن كلمة (الحزن) هى كلمة تركية ذات أصل عربى تستخدم بمعنى السوداوية كما ذكر أورهان فى الفصل العاشر.
هذا الحزن لم تخلو منه نبرة قلم الكاتب عندما تحدث عن ذكرياته مع أمه وأبيه دائمى التشاحن، وعن جدته الأرستقراطية وبيتهم الكئيب، وعن أخيه، وعن حبه الأول التى سافرت إلى سويسرا وتركته ينعم بسوداويته وحيدًا بعدها. كما أنه الحزن الذى تملكه حين احتار فى نظرته إلى مدينته التعيسة وتصنيفها.
وأورهان رغم هذا لم يكن سوى رسام كره أن يستكمل دراسة العمارة فقرر -نتيجة إلحاح أمه عليه بعدم ترك الدراسة والتفرغ للرسم- أن يكون كاتبًا. وهى مفاجأة للقارئ أن يتأخر فى اتخاذ هذا القرار وهو الملمُ بأدب تركيا وتاريخها منذ سنٍ صغيرة. وهو فى تعبيرِه ككاتب عن اسطنبول لاشك سيمس قلبَ مواطنى دول أخرى ستجد تشابهًا بين صورة اسطنبول الحزينة وصور مدن أخرى حول العالم يشعر بها أهلها.
يتعرض أورهان كذلك لفكرته الأولى عن الدين التى جعلته يتخيل الرب فى صورة سيدة ويوضح المترجم أن النسخة التركية استخدم فيها المؤلف ضمير المؤنث مع كلمة الرب، وهو وضعٌ طبيعى لطفل رأى صورة الرب تتجلى فى صورة (أسما هانم الخادمة العجوز) وهى صورة تعد مهمة جدًا للكاتب إذ أنها لا تجسد فقط صورة الرب لديه بل تجسد كذلك نقيض ما كانت عليه أمه وجدته والنسوة فى عائلته كامرأة عرفت طريقَها للرب.
تتعدد زوايا النظر عند أورهان باموق فى سيرته التى تُروى بإسهاب وتدفق يثرى خيالَك. فتراه لا يفوت فرصة الحديث عن الأغنياء والأتاتوركيين المتغربنين بدءًا من والدِه وعمه اللذين أضاعا ثروة جدهما مرورًا بكل من عرفهم من هذا النوع. وهو لا يذهب فى هذا مذهبًا مجحفًا بل يؤكد رغم تصرفات والده بشأن الأسرة والثروة إلا أنه تعلم منه الكثير. يقول:"كنت أستمع إلى صوت أبى الحكيم يخبرنى بأهمية أن يتبع الناس غرائزهم وعواطفهم؛ وحقيقة أن الحياة قصيرة جدًا؛ ومن المستحسن أن يفعل المرء ما يريده، إذا عرفه، فى الحياة- قد يستمتع المرء الذى يقضى حياته يكتب أو يرسم ويلون بحياة أغنى وأعمق- وحيث أننى تجرعتُ كلماته فقد امتزجت بالمشاهد التى كنت أراها وتحدت معها."
______________________________________________________________
*عن المؤلف: أورهان باموق - كاتب تركى ولد فى اسطنبول عام 1952. بدأ الكتابة بشكل منتظم منذ عام 1974. وهو أول تركى يحصل على جائزة نوبل عام 2006
*المترجم: د.أمانى توما وعبدالمقصود عبدالكريم
*الطبعة: صادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب- سلسلة الجوائز 2008
تعليقات
إرسال تعليق