"مذكرات دجاجة" لإسحاق الحسينى - الكتاب السادس من مبادرة "كتاب من كل دولة"

عرض: ياسمين الطوخي


"إن الجسمَ وما يتبعه من مطامع وشهوات وأهواء مصنوع من مادة، والمادة إلى فناء؛ أما النفس الخيرة  الفاضلة، وما يتبعها من مبادئ شريفة وأفكار سامية ومثل عليا فليست مصنوعة من مادة، وإنما هى نفحات إلهية خالدة على الزمن" فى هذه العبارة تتخلص الفكرة الأساسية التى تدور حولها رواية "مذكرات دجاجة" للكاتب الفلسطينى إسحاق الحسينى والتى يعود زمن كتابتها إلى عام 1943 أى قبل النكبة. والفكرة التى تدور حولها الرواية على لسان البطل والراوى (الدجاجة) هى نشر الأفكار السامية لترسيخ المبادئ الشريفة التى تُعد حلاً لكل عِقال.
وقد الكاتب هنا استخدم تقنية الرواية على لسان الحيوان كما فى (كليلة ودمنة)، وكما فى (مغامرات حمامة تطير كالسهم) وهى الكتاب الثانى من المبادرة1. ولعل دجاجة فلسطين هنا التى (ينفى عنها البعض رمزيتها فى الإشارة لأحداث ما بعد النكبة) تروى محطات حياتِها من دجاجة صغيرة إلى زوجها الأول فالثانى، وتأثيرها فى دجاجة غريبة تصير مبشرة بمبادئها فى مأوى آخر، ثم تربيتها لصِغار تربتها بعد أن تُخطف، ثم تسريحها للصغار فى الأرض مسلحين بمبادئها، وعودتِها إلى مأواها لا تطرد الغرباء بل لتُصلح حالهم!

تقول الدجاجة:"وأوينا إلى مضاجعنا مبكرين، وقد نعمنا بالطعام والشراب، وفى صباح اليوم التالى شعرنا بحركة غير مألوفة خارج المأوى، ففزعنا، وبعد قليل فتح الباب، وإذا بعملاق يدخل المأوى وفى وجهه شر مروع، فتراكضنا فى المأوى وهبَّ الأولاد من نومهم مذعورين أشد الذعر، وجالت يد العملاق فينا جولة الإرهاب، فقبضت على أترابى جميعهن الواحدة بعد الأخرى، فصحنا وصاح الأولاد، والعملاق منصرف عنا، وبعد أن خرج نفر من الأولاد مسرعين نحو الساحة، وخرجت وجسمى يرتعد من الذعر، وأخذت أتفقد الأعزاء واحدًا واحدًا فإذا هم جميعًا فى الساحة فجمعتهم وحاولت أن أزيل ذعرهم ولكن من أين للمذعور أم يطمئن المذعور ... قال ال‘زاء والدموع تنهمر من عيونهم: إلى أين سيقت أمنا ونساؤنا؟ فأخذت أترضاهم بذكر ألطف الاحتمالات وقلت: لعلهم نقلوا إلى مأوى آخر. فقالوا: كيف يشتت الشمل، ويحال بين الأم والأبناء؟ وأيًا كان المكان الذى يسقن إليه فإنهن لن يعدن إلينا. قلت وقد أعجزتنى الحيلة وخاننى المنطق: ذلكم ظلم العمالقة، ولا حيلة لنا سوى التذرع بالصبر والركون إلى القدر"
ولعل هذه الفقرة من الرواية التى تحوى مفردات (الإرهاب، والقبض، والذعر، والصياح، وتشتيت، والعمالقة) لم تبعد كثيرًا عن وصف واقع فلسطين آنذاك التى تعرضت قراها للمذابح الصهيونية، وابتُلِعَت أراضيها من المهاجرين اليهود. وبالتالى، لا شكَ أبدًا أن هذه الرواية تصف واقع فلسطين المرتحل من مكان إلى آخر بصحبة دجاجتها.
ورُغم عذوبة اللغة وجمالها - ما يجعلها تنسابُ أمام عينيك - إلا أن هذا الجمال لم يُغطى على فداحة الألم بالواقع الفلسطينى المأزوم حينذاك، والذى رُغم فظاعته، عبر الكاتب عبر إسقاطِه لبعض فِكره على لسان بطلته بأن السبيلَ لمواجهة هذا الصراع هو المبادئ الشريفة والأفكار السامية لا القوة والانتقام.
فقد رأت دجاجتنا البطلة التى اختبرت بطشَ العمالقة أن تربى الصغار على رد القوة بالمبدأ قائلة:"لا ينبغى أن تلتجئوا إلى القوة ... ليس عليكم إلا أن تنتشروا فى هذه الأرض، وتبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده، وتقنعوا الباغى بأن بغيه يرديه."
فى حين أنها اعترفت بتغير زمانها عن زمن الصغار ما يعنى أن لهم حق اختيار مواجهة القوة بالقوة قائلة:"إن أولادنا يعيشون لزمن غير زماننا هذا، وقد جد الآن، وسيجد غدًا، من الظروف والأحوال ما يدعوهم أن يكونوا على أتم استعداد لمواجهتها بعزائم قوية وقلوب لا تعرف الخور والاستسلام."
وهذا فى وجهة نظرى يوضح سببَ خسارتنا للجولات أغلبها. فنحنُ وإن نرى العدو العملاق ذا قوة وبأس، نعمد إلى الحق وحدِه مكتفين به قوة، زاعمين أنه الأقدر على دحرِ العدوان. وبالتالى، فعدم تقديرنا للموقف بشكل دقيق هو السبب فى كتابة هذه المذكرات!
1-https://yasmeeneltokhy.blogspot.com.eg/2017/07/blog-post_14.html 

*عن الكتاب والمؤلف: تنتمى مذكرات دجاجة إلى أدب فلسطين ما قبل النكبة وقد نشرت الطبعة الأولى ضمن سلسلة اقرأ التابعة لدار المعارفة بالقاهرة عام 1943 وقدم لها الأستاذ طه حسين. وكاتبها هو إسحاق موسى الحسينى ولد فى القدس 1904 ومات بها بعد عودته إليها 1990، كان عضوًا فى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كما قام بالتدريس فى معهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة