في ذكري رحيله الخامسة. ماذا علمت جلال أمين الحياةُ؟
عرض وكتابة: ياسمين الطوخي
يحل علينا اليوم الذكري الخامسة لوفاة الأستاذ والمفكر المصري الكبير جلال أمين والذي توفي في 25 سبتمبر عام 2018 عن عمر ناهز 83 عامًا أثري فيهم المكتبة العربية بكتبه وأبحاثه وعلمه. وفي هذا الصدد نعرض لأحد أهم كتبه وهو سيرته الذاتية (ماذا علمتني الحياة)، نستعرض فيه بعض ملامحه إنسانيًا وفكريًا.
...
"فما هو إذن تفسير ما أشعر به الآن من رضا عن حياتى واستقبالى لكل يوم جديد بدرجة من التفاؤل من النادر أن شعرت بمثلها فى الماضى؟ تفسير ذلك أنى، وإن كنت فقدت المشاعر المتأججة بالسرور فقدت أيضا المشاعر الملتهبة بالحزن. لقد عرفت عيوبى وقبلتها، ولم أعد أعذب نفسى بأن أتمنى أن أكون شخصا أخر أو الحصول على ما أعرف أن من المستحيل تحقيقه. أصبحت مستعدا لأن أقبل بسهولة أن هناك من هو أفضل منى فى هذا الأمر أو ذاك، قانعا بأن لدى من هذا الشئ أو ذاك ما يكفينى وزيادة."
هكذا يختتم د.جلال أمين كتابه (ماذا علمتنى الحياة؟) فى صفحاته الأخيرة، حيث يسجل بعض ما علمته الحياة بعد أن استعرض مشوار حياته فى حوالى أربعمائة صفحة مقسمة على تسعة عشر فصلاً. تبدأ من الولادة المتعسرة مرورًا بالصبا والشباب فى بيت الأستاذ أحمد أمين، فالمشوار الأكاديمى ولمحات عن المشهد السياسى إبان ثورة يوليو، وصولاً إلى المرض والشيخوخة حتى البدايات والنهايات. حيث يعد هذا الكتاب سيرة ذاتية وجزء مكمل لكتابه السابق (ماذا حدث للمصريين؟)
![]() |
مأخوذة عن موقع نيل وفرات |
ولد جلال أمين فى 23 يناير 1935 بعد صراع بين أبويه ورغبة والده فى إجهاضه وتمسك والدته به. الأب غنى عن التعريف والبيان؛ فهو الأستاذ أحمد أمين المفكر الإسلامى الكبير. أما الأم فهى سيدة مصرية استطاعت أن تغلب زوجها بالعيال، فأنجبت منهم ثمانية على عكس رغبته فى إنجاب اثنين أو ثلاثة. كما استطاعت أن تغلبه لالمال، فأخذت "تضيف القرش بعد القرش إلى دفتر التوفير بمكتب البريد، تقتطعه مما يعطيه لها أبى من مصروف البيت، إذ لم يكن لها مصدر للدخل إلا ما يعطيه لها أبى." حتى فاجأته بالمبلغ الذى استطاعت توفيره فاشترت به أجزاء من المنزل الذى تحيا به الأسرة حتى امتلكته تماما، ثم قامت بتأجيره لزوجها، فاستطاعت أن تؤمن نفسها ماديًا ضد غدر الرجال المحتمل!
وقد ذكر جلال أمين بعض من مقتطفات كتبها والده عن والدته فى مفكرة جامعًا بين اللغتين العربية والانجليزية، إذ كتب يقول:"علمتنى التجارب أن المرأة وربما كل إنسان لابد لها من دائرة تترك لها فيها الحرية فتتصرف كما تهوى، وتكون هى فيها الرئيسة، وإلا لا يستقيم حالها، إلا إذا كانت امرأة ميتة الإرادة."
ويكتب جلال أمين عن بيت الأسرة واصفًا شكله وعدد حجراته، ثم راح يعرف بأخوته السبعة من طفولتهم إلى مآلاتهم المستقبلية، وقد كان أقرب إخوته إليه هو حسين الذى راحا يتبادلان معًا الخطابات أثناء بعثة جلال إلى انجلترا. وقد صدر مؤخرًا كتاب (أخي العزيز.. مراسلات حسين وجلال أمين) يضم مراسلات الأخوين والذى جمعه وحرره الأستاذ كمال صلاح أمين حفيد حسين أمين.
ثم راح جلال أمين يحكى عن أصدقاء الصبا ومباهجه إذ يحكى عن ولوجه إلى عالم القراءة مصورًا تدرجه فى تلقى محتوى الكتب تبعًا للعمر وتجربته ودرجة وعيه. إذ "يلفت نظرى كم كان المرء مستعدا فى تلك السن لأن يضرب الصفح عن أى أحداث غريبة وغير معقولة فى مقابل أن يحصل على الحد الأقصى من الإثارة." هذه الإثارة التى اعترت مشاعر جلال أمين جراء مصافحة يد البنت الكبرى لأشهر معمارى فى مصر، وانتهلا الأمر عند هذا الحد. إذ كان دور المرأة فى حياة جلال أمين واضحًا حيث كانت أمه ثم زوجته الانجليزية هما الأكثر أثرًا وظهورًا بين صفحات الكتاب.
أما الجامعة فقد تضافر ذكرها مع وصف الحياة الاجتماعية والسياسية فى مصر آنذاك، حيث وصف التعليم الجامعى من مبانٍ، وأساتذة وطلبة. وعلاقة أساتذة الجامعة بالعمل العام وشغل بعضهم للمناصب القيادية فى السلطة. إذ يقول:" عندما أتذكر السنوات الأربع التى قضيتها فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة يستولى علىّ العجب من درجة الحرمان التى تعرضنا له نحن الطلبة المصريين من أى حياة جامعية على الإطلاق. والمدهش أكثر من هذا أنه لم يكن يدور بخاطرنا حينئذ أننا نتعرض لأى حرمان بالمرة، إذ لم نكن ندرى شيئًا عما كان يجب أو يمكن أن يكون."
ثم يتطرق جلال أمين فى كتابه إلى بعثته فى لندن للحصول على درجتى الماجستير والدكتوراه فى الاقتصاد. هذه البعثة التى عاد منها بالدرجتين وبزوجته الانجليزية وبخبرات حياتية كثيرة. حيث حذره أستاذه أن "يعود منها أستاذًا فى الاقتصاد، أميًا فى كل شئ آخر." حيث زار برلين ورأى الفارق بين الألمانيتين وراح يسجل مشاهداته عنهما، وعن المدن الانجليزية والثقافة الاوروبية، وعن زوجته إذ أنه كتب هذا الكتاب بعد مرور أربعين عامًا على زواجهما، "وهو أمر لا يمكن الاستهانة به: أن يعيش رجل مع نفس المرأة أربعين عامًا، كما أنه أمر يستحق عليه كل من الرجل والمرأة التهنئة: أن يصبر كل منهما على الآخر طوال هذا الزمن."
هذه الزوجة التى راحت تتنقل معه من لندن إلى مصر، فالكويت، فالولايات المتحدة. هذا الصبر على الزوج من جانبها، وهذا الصبر على العمل والعلم والتغيرات السياسية من جانبه. هو ما سرده جلال أمين فى كتابه عن رغبة حزب البعث فى التواجد فى مصر وعن شفيق عفيلق. وعن رؤيته لثورة يوليو وعبد الناصر والسادات والمشاهد المتباينة. وعن تدريسه فى جامعة عين شمس وزمالته لبعض أساتذة ظل يكن لهم احترمًا خاصًا. وعن استقباله السفر إلى الكويت بترحيب سرعان ما تحول إلى ملل رغم العائد المادى المجزى. وعن النموذج الامريكى الذى يفضل كل ما هو مصنوع على كل ماهو طبيعى. وعن الجامعة الامريكية فى القاهرة والتى تختلف تمامًا عن جامعتى القاهرة وعين شمس من حيث الشكل.
جاء ذلك في كتابه كمحاولة ثانية بعد محاولته الأولى (ماذا حدث للمصريين؟) حيث يقول: "وحاولت من جديد أن أفهم الخاص من خلال العام، والعام من خلال الخاص، إذ مزجت بين تجربة أسرتى الخاصة وتجربة المجتمع المصرى بصفة عامة، ووجدتهما، كما توقعت متطابقتين."
تعليقات
إرسال تعليق