حوار خيالي مع غسان كنفاني .. كيف استطاع غسان كنفاني أن يحيا بعد استشهاده كل هذه العقود؟
حوار خيالي مع غسان كنفاني
كيف استطاع غسان كنفاني[1]
أن يحيا بعد استشهاده كل هذه العقود؟
كتبت: ياسمين الطوخي
في بدايات قراءتي لغسان كنفاني كنت أتساءل عن سبب
اغتيال إسرائيل له قبل نصف قرن. ولكن الآن، حينما أغوص أكثر في كتاباته المتنوعة
بين قصة أو رواية أو دراسة أتساءل: كيف استطاع أن يعيش كل هذه العقود بعد
استشهاده؟
فإسرائيل تقلقها الكلمة لدى غسان، والرسمة لدى
ناجي، والصوت لدى شيرين، والوصف لدى باسل، والأمل لدى الدرة. وهذا أمرٌ مفهوم
للغاية بالنسبة لاحتلال؛ لكن كيف عاش كلُ هؤلاء وغيرهم على مدار هذه السنوات وتحولت
دماؤهم نورًا نسترشد به حتى الآن؟
![]() |
غسان كنفاني .. المصدر arablit.org |
وأشارك غسان في طرحه في قصته منصف أيار ضمن مجموعته القصصية موت سرير رقم 12 حيث يقول:
والسؤال الذي يجأر في رأسي .. هو: لماذا أذكرك
الآن .. وأكتب لك .. أما كان الأجدر بي أن أستمر في صمتي؟
كلا .. إني لا أستطيع .. الأيام تمر .. وأنت تغور
في الرمل .. وأخشى أن أنساك .. إني لا أريد أن أنسى رغم كل العذاب الذي يحمله
التذكر .. فقد يستطيع هذا العذاب أن يجعلني أحس يومًا بمدى كم هو ضروري أن أعود
إلى قبرك .. فأنثر فوقه بعض أزهار الحنون.. [2]
لماذا بالفعل نذكر غسان الآن؟ هل بفعل الحرب على
غزة الجارية الآن ضد شعبه ووطنه؟ أم لأننا كنا نسينا أو تناسينا أو انشغلنا فضاعت
من بين أيدينا الأولويات وكانت فلسطين في ذيلها؟
أليست الذاكرة هي جل ما نملك وأقوى سلاح يمكن
إشهاره في وجه عدونا؟
يجيبيني غسان: "أيكون هذا هو السبب الذي
جعلني أنفك عن صمتي .. كي أزيد التصاقي بك؟ .. سوف تغفر لي اعترافي .. لقد اكتشفت
أنا – كما يجب أن تكون اكتشفت أنت منذ بعيد – كم هو ضروري أن يموت بعض الناس من
أجل أن يعيش البعض الآخر .. إنها حكمة قديمة .. أهم ما فيها الآن .. أنني أعيشها."[3]
يقول غسان في مقدمة مجموعته (موت سرير رقم 12) أنه
قد قسم محتويات المجموعة إلى 3 أقسام وكان هدفه هو "الفصل بين ثلاثة أنواع
من القصص، إذا عجزت هي نفسها عن توضيح الفرق بينها، فلن تستطيع هذه الكلمة الموجزة
أن تفعل.."[4] وبسذاجتي قررت أن
أكتب تحت كل قسم كلمة واحدة تصفه وصلتني من خلال قراءتي له. القسم الأول كان
الوطن، والقسم الثاني كان الرمز، والقسم الثالث كانت الغربة. والقسم الرابع الذي
لم يكتبه ولم ينشره الناشر كان خذلان!
![]() |
الصورة مأخوذة بواسطة الكاتبة |
تسألني من أين أتيتِ بهذا التوصيف أقول لكَ من
غسان بالطبع ف"الإنسان الذي يحس أكثر من اللازم، خير من الإنسان الذي لا
يحس بالمرة..."[5]
ولكن، أهذا الإحساس نعمة بالفعل، أم نقمة على
صاحبه؟ خاصة إذا كان الإحساس موجه للقضية الكبرى والوحيدة التي يمكن أن يموت من
أجلها. فهل إذا تبدلت الأدوار وهزُلت الأوتار، تضمر الأوطان؟ ففي "البلد
الذي يعطيك كل شيء وضن عليك بكل شيء، في ذلك البلد البعيد الذي يتلون أفقه في كل
غروب بحرمان ممض، والذي يشرق صباحه بقلق لا يرحم ... هناك، كنت أعيش على أمل أن
أستطيع، في يوم يأتي أن أضع حدًا لكل شيء.."[6]
تأتي هذه الفقرة في الصفحة 67 وهو ما فعل بي كما فُعل
بمريد البرغوثي. ف"هناك أرقام معينة انسلخت عن معناها المحايد والموضوعي
وأصبحت تعني شيئًا واحدًا لا يتغير في الوجدان. منذ الهزيمة في حزيران 1967 لم يعد
ممكنًا لي أن أرى رقم ال67 إلا مرتبطًا بالهزيمة."[7]
ولعل القصة التي سُميت بها المجموعة القصصية نفسها
موت سرير رقم 12 قد أضافت إلى هذا الإحساس فالوطنُ واضحٌ فيها حتى
الموت! وهو أقصى ما يمكن وصف تأثير هذه القصة في النفس! حيث "يجب أن ينطلق
كل تفكير من نقطة الموت."[8]
ولأن الموت هو نقطة الانطلاق هنا فهو أيضًا ليس أقسى ما يمكن التفكير به والتألم
له، كما في قصة الرجل الذي لم يمت حيث تحدث السيدة نفسها قائلة: "سوف
يتسر للسيد على أن يرانا نعود إلى الأرض التي باعها .. سوف يشعر يومها وهو يحدق
بالجرح الطويل المحفور في صدغه وعنقه أن هنالك شيئًا أقسى من الموت .. أقسى بكثير
.."[9]
وهل أقسى من الموت هو شعورٌ بالغربة؟ ف"فكم
مرة حاولت أن تشرب جرعة من الخمر الذي تخبئه في خزانة الملابس؟ لماذا لا تجلس على
طرف السرير وتضع رأسك بين كفيك، وتعترف بهدوء: (أنا غريب)؟[10]
إلى أي مدى يمكن أن نصدق هذا الحوار المتدفق بين
شخصيات قصص غسان المتفرقة والمجتمعة حول موت سرير رقم 12؟ هل يمكن أن نصل إلى هذه الحالة
من الغربة الممزوجة بمرارة الخذلان؟ أم ممكن أن نقول مرارة الاستسلام أيضًا أو
ربما اللامبالاة؟ ففي قصة أكتاف الآخرين، تحدث الشخصية نفسها: "ليس
من الضروري أن يعيش الإنسان وهو يؤمن بشئ ما يوقف عمره من أجله .. الحياة هي
الحياة فقط، مثلما يعيشها الناس.."[11]
ثم تقترب المجموعة القصصية من الانتهاء بمونولوج
فريد لبطل قصة قلعة العبيد لترسخ في القلب الإحساس السالف، وربما رفضه أو مقاومته
على الأقل! "أن يمضي الرجل سبعين سنة من حياته بصورة قاسية، أن يعمل، أن
يتعب أن يكون موجودًا يومًا إثر يوم، وساعة وراء ساعة، أن يأكل طوال سبعين عامًا
من عرق كفيه، أن يعيش اليوم، آملاً في غد أفضل، أن ينام كل ليلة طوال سبعين سنة ..
لماذا؟ ليمضي بقية عمره أخيرًا مطرودًا ككلب وحيدًا، جالسًا هكذا .. أنظر إليه ..
كأنه حيوان قطبي فقد فراءه .. هل تتصور أن يعيش الإنسان سبعين سنة .. ليصل إلى هنا؟
إني لا أتحمل!"[12]
وفي القصة الأخيرة بعنوان الخراف المصلوبة نكون
قد وصلنا إلى ذروة الشعور المكتوم داخل شخصيات غسان، وربما غسان نفسه. فالخراف
المصلوبة هنا قد دفعت الشخصيات للشك:
"-ليس هناك أي صواب في العالم إذن؟
-
نعم .. لقد حكم علينا بأن نسقط داخل
عقولنا؛ فلا نجد ما نتمسك به .. إن الصواب موجود دائمًا عند الآخرين, أما أنت فلست
سوى الشك ذاته.."[13]
وهكذا، اختتم حواري مع غسان كنفاني خلال هذه المجموعة القصصية التي
لطالما أخذت بتلابيب عقلي ووجداني وجعلتني أوقن أن شعوري بحضور غسان رغم غيابه لم
يكن من فراغ!
[1] غسان كنفاني هو روائي وسياسي فلسطيني، يعتبر من أهم أدباء القرن
العشرين العرب. وُلد في عكا، شمال فلسطين في 1936 وأُجبر على النزوح مع عائلته عام
1948 إلى لبنان ثم إلى سوريا. استشهد
كنفاني يوم 8 تموز/ يوليو عام 1972 ، بانفجار سيارة فخخها عملاء إسرائيلون في
بيروت، لبنان. وكانت بصحبته ابنة أخته لميس نجم التي لم تتجاوز في ذلك العام
عمر ال17. ورغم
حياته القصيرة، لكنه أصدر أكثر من 18 كتابًا، وعدد لا يحصى من المقالات. إضافة إلى
إرثٍ روائيٍّ غير مكتمل.
نقلاً عن موقع أراجيك بعنوان من هو غسان
كنفاني - Ghassan Kanafani
https://www.arageek.com/bio/ghassan-kanafani
[2] غسان كنفاني – موت سرير رقم 12 – بنك الكتب
للترجمة والنشر والتوزيع – ط1 2023 - ص41
[3] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص42
[4] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص12
[5] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص27
[7] مريد البرغوثي – رأيت رام الله – المركز الثقافي
العربي – ط4 - 2011 ص205- 206
[9] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص134
[10] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص136
[11] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص164
[12] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص176
[13] غسان كنفاني – المصدر نفسه – ص206
تعليقات
إرسال تعليق