أستاذ جامعى على جبهة القتال أكتوبر 1973

 (حكاية مصرى مع إسرائيل) 

أستاذ جامعى على جبهة القتال ..

عرض وكتابة: ياسمين الطوخي

   من المتعارف عليه أن جبهات القتال يتواجد فيها القادة والجنود من العسكريين، والأطباء والمراسلين الصحفيين من المدنيين. أما أن يتواجد فيها أساتذة الجامعات فهو ما سنتعرف عليه من خلال كتاب (حكاية مصرى مع إسرائيل) وهو السيرة الذاتية للأستاذ الدكتور إبراهيم البحراوى، الصادر عن دار الشروق عام2020 ، والذى يعد السيرة الذاتية الأولى من نوعها بالنسبة لأحد العلماء الأجلاء المشتغلين بمجال اللغة العبرية وآدابها وأحد الرواد الأُول فى مجال دراسات الصراع العربى الإسرائيلى.

فى هذا الكتاب المكون من ٧ فصول يستعرض د.إبراهيم البحراوى نشأته الأولى فى مدينة بورسعيد الباسلة، ورؤيته للمرة الأولى للحروف العبرية وهو صبى أثناء العدوان الثلاثى. كما يكتب عن مرحلة الانتقال من معايشة الكفاح المسلح فى بورسعيد إلى الكفاح المسلح بالعلم فى القاهرة، ثم التواجد فى جبهة القتال كى يؤدى دوره فى استجواب الأسرى الإسرائيليين حاملاً سلاح اللغة العبرية. كما يتعرض فى كتابه إلى جزء من دراسات سابقة له للمجتمع الإسرائيلى عبر آدابه، وإسهاماته العلمية والمعرفية. ويكتب كذلك عن رؤيته للصراع العربى الإسرائيلى عبر زمنى الحرب والتعاقد السلمى.

نقلا عن دار الشروق


حروف مربعة على جدران بورسعيد الباسلة

كانت أنشودة فلسطين للشاعر على محمود طه بصوت محمد عبد الوهاب هى الخطوة الأولى فى الطريق المرسوم للبحراوى والتى تتحدث عن حدث جلل يشعر به حوله ولم يدركه ابن الأربع سنوات عام  1948 إلا فيما بعد. أما الخطوة الثانية التى وعاها البحراوى وهو ابن الثانية عشرة فكانت صورة صديقه الصبى حسن حمود الذى قتلته بشاعة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 فدمر مدينته، وهجر أهلها.

ذات يوم، تساءل ابن الثانية عشرة عن ماهية حروف مربعة مرسومة بقلم فحم على بعض الجدران فى مدينة بورسعيد، فعرف من الأهالى أنها حروف عبرية يكتبها جنود إسرائيليون كعلامات للقوات الفرنسية والبريطانية لإرشادها إلى مقرات الفدائيين المصريين. 

من هنا أدرك البحراوى أن طريقه المرسوم كفدائى هو طريق تعلم هذه اللغة كى يدرس عدوه ويحلل تفكيره، ويأمن مكره. 


سلاح اللغة العبرية.. من بورسعيد إلى القاهرة

حمل البحراوى متاعه إلى القاهرة فى يد، وفى اليد الأخرى استعداده لحمل سلاح اللغة العبرية مستعينًا على طريقه الصعب بنور العلم -الذى تلقاه على يد أول معيد للغة العبرية وهو الأستاذ رفعت يس الذى تعلم اللغة العبرية على يد الحاخام المصرى شويكة- فولج به إلى عقل العدو، فراح يدرس فكره وأدبه وبستنبط ما وراء النص. درس الحركة الصهيونية و"عرف مصطلح "العبرى الجديد" الذى يهدف إلى إعادة رسم صورة اليهودى الجديد -المناقضة لسمات المذلة والجبن والانحناء- التى تقدمه فى صورة تتسم بالشجاعة والمبادرة إلى العدوان واستخدام القوة لحسم الموقف. من أجل استهداف الشباب اليهود وحشدهم فى أوروبا لتهجيرهم إلى أرض فلسطين."

أدرك البحراوى -الطالب فى الكلية آنذاك- خطورة فكر أصحاب هذه اللغة، فأقبل عليها يتعلمها بنهم نابع من إحساسه بالمسئولية الوطنية، استعدادًا لتلبية النداء فى جبهة القتال فى أى وقت، مستعينًا على مشقة العلم بخطواته الأولى المكونة لوعيه بالقضية الوطنية.

وما أن اندلعت حرب يونيو ١٩٦٧ حتى حمل د. البحراوى سلاحه وراح يقدم نفسه إلى القيادة التى وضعته فى أحد أهم مواضع القتال وأسندت إليه مهمة استجواب الأسرى الإسرائيليين، وكان عددهم ٤ طيارين و٧ ضفادع بشرية.

يقول د. البحراوى واصفًا حديثه مع الأسير دان "فنهض منتفضًا قائلا: كلا.. لقد ولدنا فى إسرائيل وسنموت فى إسرائيل. نظرت إليه مدققًا، كان رده اكتشافًا بالنسبه إلى، فقد كانت الفكرة الشائعة لعامة العرب وحتى المثقفين، بل المتخصصين فى الشئون الإسرائيلية هى أن اليهود الذين جاءوا من أوروبا مجموعة عصابات باحثة عن المنافع فى الشرق تحت ستار الفكرة الصهيونية ... مرت أمام عينى بسرعة قراءات عن جيل الصابرا أى اليهود الذين ولدوا فى فلسطين، وعن وسائل التنشئة التى تُتبع لغرس إحساس الارتباط داخله بالأراضى الفلسطينية. قلت لنفسى: يبدو أن ماكينة التنشئة الصهيونية قد نجحت وأثمرت."

هذا النجاح الذى حققه العدو فى حرب 67 أصاب البحراوى بإحساس الصدمة عندما رأى بعد انتهاء الحرب العلمَ المعادى يرفرف على عمود مرتفع فوق شاطئ سيناء. ومن هنا، قرر البحراوى أن يتمسك بعلمه سلاحًا ويستخدمه فى مهمة استطلاع خلف خطوط العدو عبر آدابه.


دراسة المجتمع الإسرائيلي عبر الأدب

يقول الدكتور بحراوى أن عددًا من أساتذته من قسم الطب النفسى نصحوه بدراسة المجتمع المعادى عن بُعد عبر الأدب وهو منهج تكون فى الجامعات الأمريكية بالتعاون مع المخابرات المركزية أثناء الحرب العالمية الثانية لدراسة المجتمع اليابانى المعادى آنذاك.

فراح يدرس آثار حرب الاستنزاف المصرية على الأدب الإسرائيلى فى الشعر والمسرح والقصة القصيرة مستعينًا بالملاحق الأدبية للصحف الإسرائيلية التى كانت تحصل مصر على نسخ منها بطبيعة الحال. وقد أرفق عددًا من القصائد والقصص العبرية المترجمة والتى تعد بمثابة وثائق أدبية دالة على طبيعة الحالة النفسية التى أحدثتها حرب الاستنزاف المصرية آنذاك. ويرى البحراوى أن آثار حرب الاستنزاف أوجعتهم إلى الحد الذى عبروا فيه عن ذلك فى آدابهم "ونبهتهم إلى أن الصراع العسكرى مع مصر ليس نزهة ولكنها لم تغير مفاهيمه وأطماعهم التوسعية. وكان لابد من حرب أكتوبر لإرغامهم بجرعة أعلى من الآلام على التفكير من جديد فى مسألة الاحتفاظ بسيناء."

د.إبراهيم البحراوي رحمه الله

سلاح اللغة العبرية والأسرى الإسرائيليين بعد حرب اكتوبر

حمل البحراوى سلاحه لمرة أُخرى على جبهة القتال، فراح يدرس أفكار ومشاعر الأسرى الإسرائيليين أثناء حرب أكتوبر الذين اعتبرهم ثروة بشرية. وقد استهدف الحوار من جانبه مع مجموعة من الأسرى التعرف على 5 جوانب أساسية. وهم: مدى إدراكهم لعدالة الهجوم العربى على الحبهتين المصرية والسورية. رؤيتهم للمقاتل العربى بعد نجاحه فى التغلب على جميع العقبات الهندسية والتكنولوجية والعسكرية. رؤيتهم لنظرية الأمن الإسرائيلية التى تقوم على أساس الاحتفاظ بالأرض العربية كخير ضمان للأمن الإسرائيلي. رؤيتهم لصورة الجيش الإسرائيلي فى ضوء نتائج الهجوم العربى. رؤيتهم لمستقبل الصراع العسكرى أو التسوية السياسية فيما يتعلق بسيناء. 

وقد أفرد الدكتور البحراوى فى نحو 6 صفحات الصورة العامة التى تشكلت أمامه لاتجاهات التفكير لدى مجموعة الضباط الإسرائيليين الأسرى تجاه هذه الجوانب. ولعل أبرز ما لفت نظره هو إجاباتهم فيما يخص رؤية الضباط الأسرى لنظرية الأمن الإسرائيلى، وجاءت جميع الإجابات تحمل طابع الإجابة التى سجلها باسم أحد الطيارين الملاحين ويدعى يورى حيث قال "اعتقد أن كل إسرائيلى سيزاد تمسكا بنظرية الأمن هذه. وعندما سأله البحراوى عن السبب أجابه" لأنه لو لم يكن خط حصون بارليف قائما على قناة السويس لكانت المعركة قد دارت داخل إسرائيل ودمرتها بالفعل."

سلاح اللغة العبرية فى زمن التعاقد السلمى

أدرك البحراوى أن - بعد إقرار التسوية السياسية عقب الانتصار العسكرى الذى حققه الجيش المصرى والتعاون العربى ضد كلٍ من إسرائيل والتدخل الأمريكى المباشر لصالحها، ثم توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل- اللغة العبرية أصبحت أكثر أهمية فى زمن التعاقد السلمى كما أطلق عليه. إذ وجه دراساته فى فهم الواقع العربى والإسرائيلى ومستقبله بعد توقيع المعاهدة. وكذلك "دراسة مستقبل الهدف الفلسطينى فى ضوء اتفاقية كامب ديفيد". 

ثم  عمد الدكتور البحراوى إلى دراسة الداخل الإسرائيلى ونقله إلى القارئ العربى عن طريق إنشاء صفحة (كيف تفكر إسرائيل) بأخبار اليوم بين فبراير1979 ومارس 1985 حيث "ارتكزت كتاباته على محورين: الأول تقديم معرفة كاملة للقارئ عن كل ما يدور فى إسرائيل، والآخر الالتزام بإقامة دولة فلسطينية فى الضفة وغزة واعتبار هذا الأمر متمما لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل." وقد رصد الدكتور البحراوى فى كتابه رد فعل المصريين والإسرائيليين تجاه المعاهدة، حيث كان رد الفعل الإسرائيلي مفاجأة إذ رصد مقالا لأستاذ الطب النفسى الإسرائيلى رفائيل موزس يشرح فيه الحالة النفسية للإسرائيليين الذين"يعانون اضطرابات نفسيا بسبب فقدهم لسيناء التى تعودوا على امتلاكها واعتبروها جزءا من دولتهم... وأسمى هذه الحالة طيف العضو المبتور"


معركة التوثيق والوثائق.. حفظ الحقوق القومية العربية

تعد من أهم المعارك التى خاضها المقاتل الأستاذ الجامعى د. إبراهيم البحراوى هى معركته فى جانب التوثيق والوثائق الخاصة بالحقوق القومية العربية والوطنية المصرية. فكانت معركته الأولى فى حماية التراث المصرى اليهودى المخزون فى غرفة التخزين بالمعابد اليهودية والمعروفة بوثائق الجينيزا، وذلك لقطع الطريق على عمليات النهب والتهريب إلى الخارج التى نشطت بعد معاهدة السلام. 

وترجع أهمية هذه الوثائق التى كتبها يهود من رعايا الدول الإسلامية مروا بالقاهرة "أنها تسجل التاريخ الإنسانى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى فى المنطقة من خلال مذكرات المسافرين اليهود وسجلاتهم." ويسجل البحراوى معركة اللجنة العلمية المصرية المشرفة على هذا المشروع مع المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة الذى حاول التدخل للمشاركة فى هذا المشروع، والسجالات التى استمرت بينهما حتى تم تجميد المشروع باستخدام ذريعة دينية حيث أرسل الحاخام الأكبر فى إسرائيل خطابًا إلى الطائفة اليهودية فى مصر يخطرها بأن استخراج وثائق الجينيزا لا يجوز شرعا إلا بحضور حاخام لإجراء مراسم دينية تشبه فتح قبر الميت. وهنا، تم تجميد المشروع لحين البت فى الاجراءات الدينية الواجبة عام 1986. حتى تم إنشاء مركز لدراسة الوثائق فى جامعة القاهرة وتم حفظها فى  دار الكتب والوثائق المصرية عام2005.

أما المعركة الثانية فكانت الحصول على الوثائق السرية الإسرائيلية الخاصة بحرب أكتوبر التى أفرجت عنها السلطات الإسرائيلية بعد 40 عامًا من الحرب، وترجمتها فى مشروع كبير صدر فى عدة أجزاء عن المركز القومى للترجمة بمصر مؤخرًا. وتكون هذه الوثائق من 3 مجموعات، الأولى هى محاضر مجلس الحرب برئاسة جولدامائير، والثانية هى تحقيقات لجنة اجرانات، والثالثة تقارير عن الأداء الميدانى لحصون خط بارليف

وترجع أهمية هذه الوثائق التى أصبحت متاحة بين يدى القارئ المصرى والعربى الآن إلى أنها وثائق رسمية تتضافر كما يرى د. البحراوى مع الوثائق الأدبية التى قدمها فى كتابه فى رسم صورة الانتصار المصرى الذى دفع زئيف شيف كبير المحللين العسكريين إلى وصف الهجوم المصرى بالزلزال.

كما يستعرض الدكتور البحراوى أهم الوثائق التى تعرض لها المشروع، فيتعرف القارئ العربى على مدى نجاح الدولة المصرية فى إسباغ خطة الخداع الاستراتيجى على أجهزة إسرائيل وامريكا الأمنية، كما سيدرك القارئ مدى نجاح التنسيق المصرى السورى طوال فترتى الإعداد للحرب والقتال على الجبهة، وسيشارك القارئ العربى الدكتور البحراوى فى دعوته من واقع قراءته أنه قد آن الأوان لتغيير مصطلح الجسر الجوى الأمريكى المساند لإسرائيل إلى التدخل الامريكى المباشر فى حرب أكتوبر. وأخيرًا سيدرك القارئ العربى "أهداف الحملة الدعائية لنفى هزيمة الجيش الإسرائيلى أمام الجيش المصرى المتلخصة فى عبور الجيش الإسرائيلي إلى الضفة الغربية بالثغرة ... من أجل زعزعة الثقة فى سابقة انتصار أكتوبر 1973 الواضح كما الشمس، فيسمح للأجهزة التى تدير حملة الحرب النفسية بهز ثقة الأجيال المصرية والعربية الجديدة فى إمكان الانتصار على أى عملية عدوانية فى المستقبل."

أما المعركة الثالثة فكانت بخصوص توثيق عروبة القدس فى مقابل محاولات تهويدها مع د. يوسف زيدان ود. مردخاى كيدار التى خاضها فى سلسلة مقالات فى المصرى اليوم تحدث فيها عن المستندات والوثائق التاريخية التى تثبت عروبة القدس. 

وترجع أهمية هذا التوثيق إلى حسم هوية القدس العربية والتى ترجع إلى "أربعة آلاف سنة وملكيتها لقبيلة العربية يبوس التى جاءت إلى فلسطين قبل ظهور بنى إسرائيل وقبائلهم على وجه الحياة." وراح د.البحراوى يفند الحق العربى التاريخى فى القدس مستخدمًا كذلك وثائق تل العمارنة، والكتب اليهودية المقدسة نفسها، حاسمًا المعركة لصالح توثيق للعروبة القدس.

وأخيرًا، يختتم د.إبراهيم البحراوى سيرته الذاتية برسالتين إلى القراء المصريين والعرب. الأولى: بضرورة عدم ترك سلاح اللغة العبرية خاصة فى زمن التعاقد السلمى. والثانية: الدعوة إلى زيارة موقع تبة الشجرة، وهو الاسم الذى أطلقه الجيش المصرى على مقر القيادة الإسرائيلية للمنطقة الوسطى فى سيناء. والذى سنطالع فيه أسماء الشهداء الأبرار الذين ضحوا بحياتهم لاقتحام هذا الحصن والاستيلاء عليه. وعددهم 23 شهيدا لكتيبة 12 مشاة. 

رحم الله شهداء الوطن، ورحم الله العالم الجليل الدكتور إبراهيم البحراوى صاحب هذا الكتاب الهام الذى أثرى به المكتبة العربية، تاركًا إرثا علميًا نستزيد به، وأثرًا وطنيًا نقتفيه ونفخر به.

تعليقات

المشاركات الشائعة